حين تنهشنا الغربة..
أ.سحر المصري
بسم الله الرحمن الرحيم
تترقرق دموعها كلما فاض كأس التعب.. ويتوقف قلبها عن الخفقان كلما حمي وطيس الغربة.. وتتساءل: ما السبيل إلى الخروج من هذا النفق الشديد السواد.. ألا من بصيص نور خلال المسير؟ لِماذا عليّ أن أتحمّل ما أجد منهم؟ لِم أنا؟
كانت تقتلني كلماتها كلما علا صراخها الخافت! وكانت تحرقني دموعها الممزوجة بالغضب المزمجر.. وكنت أقف حائرة بماذا أنصح.. فقد خبرت الحياة قبلها.. وتجرعتُ منها فوق ما أطيق.. ولكنها سُنّة ماضية إلى يوم القيامة.. وطوبى للغرباء!
قصتها لا تختلف كثيراً عن أيّ قصّة أُخرى لفتاة تربّت على الفضائل والأخلاق والقِيَم الشامخة لدينٍ شرّفنا الله جل وعلا بحمل رايته.. بل وعيش مبادئه حقيقة على الأرض لا التغنّي بها.. حتى إذا ما عاقرتنا الخطوب خلعنا ثوب الدّين ولبسنا قميص الدنيا وما تهوى الأنفس.. والقابض على الدِّين والأخلاق في عالم فاسد يعجّ بالأنانية والكذب والخيانة والغش والظلم يعيش غربة حقيقية وذهول في بعض الأحيان مما يجد ويرى ويعايش!
بصُرَت النور ولم تكن يوماً على حَرْف.. وإنما تشرّبت معيناً واحداً استقاه أهلها من دين سماوي راق.. فكانت صنعة منظومة متكاملة من الأخلاق.. إلا أنها تعثّرت في مكان ما.. حين اكتشفت أنه لا مكان في هذا العالم إلا للأشقياء! ورأت الازدواجية المقيتة التي يعيشها البعض.. فيدّعي الصدق وهو كاذب.. ويهاجم الظلم وهو ظالم.. ثم رأت بأمّ عينها كيف يعربد سيء الأخلاق لأنه "قويّ" بقلة أخلاقه وصوته العالي.. فقد تعوّدنا أن نرى سيطرة الباطل على المجالس وفي التجمعات.. وكلما علا صوت الباطل اتّبعوه.. وكانوا إمّعات تُساق كالأغنام وتصفّق للأقوى.. إما خوفاً، وإما ضعفاً.. وفي كلتي الحالتين يعطونه صك اعتراف "غير شرعيّ".. فيقوّونه على بغيه..
ولطالما تساءلَت هذه الفتاة: لِماذا يعلو صوت الباطل على الحق وهو الحق! لِماذا عليها دائماً أن تتحمّل ضجيج الباطل لتكون الطائر المغرّد خارج السرب.. بل والأنكى من ذلك أنها تتلقّى الصفعات والطعنات لأنها اختارت طريق الحق!
وكانت دائماً في حيرةٍ من أمرها.. هل تواجه بنفس السلاح الذي لا تتقن فنونه؟! فهي لا تفقه مفردات الاستهزاء بالآخرين.. ولا رفع الأصوات بغير حق.. ولا تصيّد الأخطاء.. ولا السخرية ولا الكلام الفاحش البذيء ولا قلة الأدب!
أم تصبر وتدير ظهرها فيعتقدون أنها ضعيفة تُكسر؟! أو بلهاء أو حمقاء!!
كانت تحمل الحب بين جنباتها.. وتزرع الودّ أينما حلّت.. وتحلم بمجتمع يحوي قلوباً طيبة تبادلها المشاعر الرقيقة الصادقة.. ويضمّ نفوساً راقية تنشر الفضيلة والأخلاق.. ولِم لا يكون ذاك والأرض الطيبة لا تُنبِت إلا خيرا؟!
حاولت التصدّي ذات غضب فتنكّرت لنفسها: هذه ليست أنا!
وكانت أحياناً تضيق ذرعاً بمبادئها وتتمنى لو استطاعت التعايش مع المحيط! وأحياناً تحاول مسايرة الواقع فتفلح حيناً وتتعثّر أحياناً أُخرى.. وكلما توغلت في المسير خشيت على نفسها أكثر.. فتلابيب الباطل قوية وكثيرة.. والصراط دقيق!
كنتُ أهدّؤها.. ففي نهاية الأمر لا يثبت إلا الأصيل.. وهي ضريبة الأخلاق لا بد أن ندفعها.. وليس الحل بأن نتخلّى عن مبادئنا وقِيَمنا ونكون كما يريدون لنستطيع الاستمرار.. هذا إن استطعنا من الأساس التغاضي عما اعتدنا عليه دهراً.. سنختنق إن لم نكن نحن بأخلاقنا واستعرنا لبوساً لا يليق!
لا بد من التكيّف مع هذا المحيط دون الذوبان فيه.. والتأثير فيه دون التأثر.. ولا بد أنه في داخل كلّ من هؤلاء الفاسدين راداراً يعلم أن الصادق خيرٌ منه.. وأن الثابت على المبادئ أرقى منه.. ولعل عدم قدرته على الارتقاء إلى مستوى أخلاقي فاضل يجعله يهاجم الخلوق أكثر لينتقم من نفسه عبره!
أما إن لم يستطع المرء مجاراة الواقع مع الحفاظ على مبادئه وتغيير الفساد المستشري فلا أقل من أن يعتزل القوم حتى يقوى عوده..
وكنت كلما حدثتها بهذا نظرت إلي والدمع يعانق مقلتيها وقالت: وهل سأبقى وحيدة؟! وكنت أجيب: فتّشي عمّن هنّ مثلك ولن تعدمي وسيلة.. واستأنسي بهنّ في وحشة الطريق.. فالخير في أمّة الحبيب عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة.. وحين لا تجدين فابقي وحيدة إن استدعى الأمر.. فذاك أشرف من أن تزلّ قدمك في مستنقع عميق؟! وتذكري أننا غرباء.. وحين تنهشنا الغربة.. فهو الثبات واليقين أننا على الدرب القويم.. وطوبى للغرباء!
هذه نماذج نراها كل يوم.. في زمن شاء الله جل وعلا أن نحيا فيه.. الحق فيه باطل.. والصدق فيه سذاجة.. والأخلاق ضرب من الجنون.. والقوي مَن مَلِكَ الصوت الأعلى.. وإن رأيت شيئاً مستقيماً.. فتعجّب!
لا شك أن التربية في هذا الزمن صعبة.. ولكن النبتة الفاسدة لن تعمّر كثيراً.. والعاقبة للتقوى..!